حبيب ولد باركل |
من الصمت تولدت عوالم واحاسيس وعلوم وفي الصمت عاشت امم دون ان يخترق جدار الصمت الذي حولها اي شيئ ،وعاش الصمت زمنا فالهم وعلم واثمر واعتصر وفجر قلوبا وعقولا وقرائحا ومكامنا ظلت تستريح على شواطئ النسيان ومنها ولدت مدينة تستريح واضعة جسمها بين ضفتي بحر يعانقها وتعانقه منذ ازمنة بعيدة ،فهواها وحبات رملها واسماك تلك الضفتين وتجاعيدصخرها الكلسي ملامح تناسقت لتشكل شخصية مدينة من الصمت لاتتكلم الا لغة الامواج،ولدت انا بالمدينة تعلمت من صمتها ان ابناء المدينة الصامتة يتقنون فن الكلام كما يتقنون العيش في صمت ليست المدينة كغيرها في عالمنا العربي لانها موريتانية الرمل والهواء فجمال عنابة من موقعها في الجزائر وصخب مدينة طنجة المغربية ايضا من كونها بوابة للمغرب على اوروبا وسحر البحر وجماله في الانسكندرية وبور سعيد لانها كلها مدن تعانق البحر والتاريخ وتحمل في سجلاتها من جمال العروبة والاسلام ماتزال تتنفسه سرت ببحرها الهادئ وبنغازي وطبرق وغيرها من المدن الليبية وفي فلسطين حيث ترفل حيفا وعكا في حلل باهية من الجمال الممزوج بعبق التاريخ كما غزة ،لكن هذه المدن كلها سعيدة لأنها قدمت واضحت عرائس بحق في بلدانها لايختلف عليها اثنان ومدينتي لاتزال تعطي بصمت رغم ان العابرين لايرون جمالها الباطن وموقعها الرائع وقدراتها الباهرة،مدينة انواذيبو هذه المدينة التى تعج بالحركة والنشاط والتى لا تعرف النوم ولا الاستقرار,صامتة في داخلها تطحنها حركة الحياة بصمت دون تطور هي التي لم تكن بالامس سوى نقطة بحرية استهوت البحارة البرتغاليين فى القرن الخامس عشر الميلادى واثارت انتباه المستكشفين الفرنسيين لاحقا.... ومع تطور حركة الاستكشاف الاوروبي والتطلع الى ما وراء البحار وتوالى البعثات الاستكشافية, بدأت انواذيبو تتحول الى مركز استقطاب للرحالة والبحارة الاوروبيين الذين بهرتهم كثافة الاسماك في سواحلها وقربها من الشواطئ..... وخلال هذه الفترة ظلت انواذيبو مركزا للتنافس بين البرتغاليين والفرنسيين احيانا وبين الفرنسيين والأسبان احايين اخرى, وادى هذا التنافس فى بعض الحالات الى تقسيم الرقعة التى تغطيها المدينة اليوم, بين الفرنسيين والاسبان.... ومع وصول الاستعمار الفرنسي الى الاراضي الموريتانية كانت انواذيبو إحدى النقاط الاساسية التى ركز عليها وبدأ يستقر فيها, وبعد سيطرته على البلاد تفرد بالسيطرة علي النقطة البحرية, وبدأت معالم مدينة انواذيبو الحالية تتشكل.... ونظرا لموقعها الجغرافي فقد عانت المدينة منذ بداية القرن الماضي من مشكلين رئيسيين هما: العزلة, وانعدام مياه الشرب, وكانت العزلة خانقة جدا حيث لم يكن الوصول اليها ممكنا الا عن طريق السفن او بواسطة الجمال, كما ذكر جاري العزيز احد الموظفين القدماء من ابناء المدينة, السيد دودو ولد صمب نور رحلته اليها عندما تم تحويله اليها موظفا في عهد الاستعمار الفرنسي, حيث اضطر لركوب الجمال من نواكشوط الى المدينة ليتسلم عمله....ولا زال احد الذين كانو يزورونها باستمرار تلك الحقبة من التاريخ في سبعينيات القرن الماضي انها كانت تشهد تطورا لافتا على غرار المدن الافريقية الكبرى ولاكن ذلك ظل يتراجع في صمت ....... وفى مجال الصعوبات التى عاناها السكان من نقص المياه, ففي عهد الاستعمار الفرنسي لم تكن هنالك وسيلة للحصول على المياه الصالحة, وان السكان كانوا يحصلون على المياه من (بوردو) و(مارساي) وكان كل مواطن يحصل على (5) ليترات من المياه فى اليوم.... ومع بداية استغلال المناجم اصبح السكان يحصلون على المياه المستجلبة بواسطة صهاريج شركة مناجم موريتانيا, وكانت هذه المياه غير صالحة للشرب نسبيا حيث ترتفع درجة ملوحتها ويكدرها صدأ هذه الصهاريج ويلوثها غبار المعادن....الا انها رغم كل ذلك ظلت صامتة فصمتها علمنا الصمت ولكن كمرآت نرى من خلالها حركة الحياة بصفاء وتامل ،فمدينتي لها شخصيتها الخاصة وموقعها الخاص فهي آخر مدينة عربية في شمال غرب افريقيا تتنفس هوى عربيا صرفا ،كانت دائما تحدثني شوارعها الضيقة عن المستقبل وتشكو لي صراع احلامها مع النسيان ،حدثتني ذات مرة عن جشع الانسان ومرارة الاهمال عن شوارعها المبعثرة عن وجهها الشاحب عن بيوت الرخام وعمارات جاورت بيوت الصفيح رغم المعادن والاسماك والسياحة المفقودة ،وحدثتني عن أيام خلت كان للصياد صنارة وخيط ،واأخيه القادر شبكة لكن كل هذا كان بسيطا ،تقول كنت اعطي وارقب يوما انا تكون لي مرافق وبنا تحتية وموانئ نظيفة ونشطة احلم أن أكون مدينة إقتصادية بحق أما اليوم فلا حيلة لي سوى الصمت فبواخرهم اصبحت تاتي على الاخضر واليابس وانا رغم ماقدمت لازلت انا انا لا مرافق ولا طرق جميلة ولا حدائق ولاساحات مشيدة بل عشوائية في كل شيئ حتى العشوائية في اقتسام الصمت بين الاطراف .......ولايزال الصمت سيد الموقف.
هناك تعليق واحد:
أخي حبيب لا شلت يمينك
نواذيبو تحيي أبناءها البررة
إرسال تعليق